لو كرسنا كل معارف العارفين بالله في كلمة، فهل تطيق أن تشرح موقف الله من الإنسان كما يختاره الإنسان لنفسه، بأجمل وأوفر من هذا التعبير: "كن لي، أكن لك"؟ ولو لخصنا حنان كل ذي حنان في جملة فهل تكون بعض ما نستشفه من حنان يكاد يلمس باليد، في هذه الجملة التي تمرّ على الخواطر أرق من الحنان: "يا ابن آدم! إني أتقرّب إليك بالعافية، وبسترٍ على ذنوبك، وأنت تتبغّض عليّ بالمعاصي، وعمارتك الدنيا، وخرابك الآخرة"؟ ولو جمعنا عصارات أدمغة الفلاسفة كلها في عبارة، فهل يمكن أن تفسر مدى هيمنة القدرة على الإنسان، بأصدق من هذه العبارة: "أجلك يضحك بأملك، وقضائي يضحك من حذرك، وتقديري يضحك من تدبيرك، وآخرتي تضحك من دنياك، وقسمتي تضحك من حرصك"؟ أو هذه العبارة: "يا بن آدم! نريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد"؟
لو اختصرنا جميع كتب الحكمة والأخلاق، فهل ننتهي إلى أبلغ من هذا القول الرصين المتين: "لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف عن الأذى، ولا أحسب أرفع من الأدب، ولا شفيع كالتوبة ولا عبادة كالعلم"؟ أو هل أدّت المواعظ والتوجيهات التي وعاها الإنسان، ما تؤديه هذه الموعظة البليغة: "من عرف الله فأطاعه نجا، ومن عرف الشيطان فعصاه سَلِم، ومن الحق فاتبعه أمن، ومن عرف الباطل فاتقاه فاز، ومن عرف الدنيا فرفضها خلص، ومن عرف الآخرة فطلبها وصل"؟
أو هل عرف الزهاد قولة تزهدهم في المغريات، دون إنكار لنوازعهم، بل تعترف بها وبالمغريات معاً، ثم توجههم نحو الآخرة، أبسط وأعمق من هذه القولة العجيبة: "أخّر نومك إلى القبر، وفخرك إلى الميزان، وشهوتك إلى الجنة، وراحتك إلى الآخرة، ولذّتك إلى الحور العين"؟ أو هل تبرعمت المنابر عن كلام يأخذ بمجامع العقول والقلوب، إلى الورع والتقوى، أكثر رقة وشفقة وصدقاً من هذا الكلام الرحيم: "ارحموا أنفسكم، فإن الأبدان ضعيفة، والسفر بعيد، والحمل ثقيل، والصراط دقيق، والنار لظى"؟
ومن عرّف الدنيا مثل هذا التعريف الصادق العميق: "إن الدنيا، اليوم لك، وغداً لغيرك"؟ ومن تلقّى الإنسان من موجّه توجيهاً، يغرز صلاحياته الواقعة في الدنيا، من صلاحياته الموهومة فيها، ويحدّد ماله من الدنيا، وما عليه من الدنيا، قبل هذا التوجيه، أو بعد هذا التوجيه، مثل هذا التوجيه الواقع العادل: "ما لك من الدنيا إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدّقت فأبقيت، وما ذخرت فحظك منه المقت"؟ وأين توجد حكمة صائبة تكون لها من قوة المعنى ورقة التعبير، ما للتيار من قوة ورقة، كهذه الحكمة الصائبة: "مثل العلم بلا عمل، كمثل الرعد بلا مطر.. مثل القلوب القاسية، كمثل الحجر الثابت في الماء... ومثل الموعظة عند من لا يرغب فيها، كمثل المزمار عند أهل العبور.."؟
هذه نماذج من كتاب، كله نموذج لنوع فخم من الكلام، لا يوجد له نموذج واحد في أي كتاب وأي كلام، إنه كلام الحديث القدسي صنوَ القرآن الذي جاء ليؤدي دور القرآن في أمم قد خلت من قبل، وليكمل مسؤولية القرآن في خير أمة أخرجت للناس. وقد تم اختيار هذه المجموعة من حديث الله إلى أنبيائه، دون التفريق بين أحد من رسله، وتمّ ترتيب هذه الأحاديث القدسية التي ضمّها هذا الكتاب ضمن فصول، على أن يكون لكل فصل موضوع يضم الحديث الخاص بذلك الموضوع
في حال أردتم معرفة المزيد عن هذا الكتاب, نرجوا أن لا تترددوا في التواصل معنا عبر
صفحة التواصل. ويسعدنا الرد عليكم في أقرب وقت ممكن.