تعددّت أساليب الكتَّاب وهم يُدبِّجون الحروف من أجل تسطير الكلمة والفكرة الطيبة إلى القارئ/الباحث عن الهدى والرشاد، ففئة منهم لجأت لكتابة المقالة، وأخرى كتبت القصيدة، وثالثة حررت الخاطرة أو القِصّة، ورابعة عملت على الدراسة والبحث، وهكذا... وقلّة من الكتَّاب الذين استطاعوا أن يجرِّبوا الكتابة في معظم الأغراض والنواحي الكتابية، ويأتي على رأس هذه الطليعة المرجع الديني الكبير الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي «رحمه الله» (1347-1422هـ) الذي ناهزت مؤلفاته الألف كتابٍ! حتى عُرِفَ بـ«سلطان المؤلفين»؛ إذ امتشق قلمه ليكتب: العلم النافع، وليُّسطِّر: الكلمة الطيبة، التي أتت أُكُلَهَا بإذن ربها، فأينعت غذاءً: فقهياً، وثقافياً، وفكرياً، ورسالياً، و... مُختَلِفاً أَلْوَانُهُ وأُكُلَه، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ به أصحاب النفوس المريضة الذين لم ينصفوا الرجل، حتى بعد رحيله! وأنى لهم ذلك وهم يرون نتاجه مستمراً في تدفقه كأنه الشلال!!
لكن، وكما يقول الشاعر شرف الدين البوصيري (608-669هـ):
قد تنكر العين ضوءَ الشمس من رمد وينكـر الفـم طـعـمَ الـمـاء مــن سـقـمِ
فعندما نقرأ النتاج الضخم والنوعي للإمام الشيرازي نهتدي إلى أنه قد فتح منافذ وعيه من أجل إتاحة الفرصة لكي تهب عليه الرياح المبُشِرّة بالكلمة والفكرة الطيبة؛ والتي عمل ما بوسعه لتلَّقيِّها، ومن ثم معالجتها؛ ليخرجها لنا -بدوره- في مئات الكتب والمجلدات والكرَّاسات؛ التي كتبت له الخلود، حتى حسبه البعض لا يزال يعيش بيننا بجسده الترابي؛ لكثرة ما يصدر له من نتاجٍ، بينما هو يرقد بين الأخيار في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر! وكرأي شخصي غير مُلزِم لأحدٍ، أقولها بضرس قاطع: إنني أحسب الإمام الشيرازي حياً؛ فيما الكثير من الناس يعيشون بيننا وهم موتى!!
ولعلَّ هذه الموسوعة القصصية التي ترقد بين أيدينا، بفضل جهد الزوجين الكريمين الأخ العزيز بشير البحراني وزوجته الفاضلة أزهار المرزوق، تعكس ملمحاً بسيطاً من إشراقات الإمام الشيرازي المتجددَّة التي لا زالت تنير الطريق بالنور والضياء، لمن أراد السير للوصول لشاطئ السعادة والسلام.
ولكي لا أُسهِّب في هذا التقديم! أودُّ الإشارة إلى أنني استمتعت واستفدت كثيراً؛ بقراءاتي لهذه المجموعة الكبيرة من القصص والحكايات التي تضّمنها هذا العمل الرائع، فوجدت فيها: معرفة ومتعة! كما أودُّ التنويه إلى أنني سأتحدث هنا في محورين اثنين، وهما:
1- القِصّة في كتابات الإمام الشيرازي.
2- قِصّة بشير وأزهار.
القِصّة في كتابات الإمام الشيرازي
من نافلة القول: إن رواية القِصّة قديمة قِدم الإنسانية. ويُعتَقَد أن شعوب ما قَبل التاريخ، تداولوا فيما بينهم الأساطير والخرافات، وتوارثوها جيلاً بعد جيل، من خلال الرواية الشفهية والرسوم[1] . ويمكننا تعريف «القصة القصيرة» على أنها «عمل قصصي لا يتجاوز بضع صفحات تتضمن عادة حدثاً واحداً وشخصيات قليلة ويمكن قراءة أغلبها في جلسة واحدة. وتعد القِصّة القصيرة واحدة من أقدم الأشكال الأدبية. فقد كتبت قديماً منذ نحو 3000 سنة ق.م على هيئة قصص خيالية قصيرة في مصر, وَتُعد قصص (ألف ليلة وليلة) أمثلة أخرى على شَكل القصة القصيرة»[2] .
وقد تعددّت أساليب الكتَّاب وطرقهم في كتابة القِصّة، فمنهم من كتبها بلغة رومانسية حالمة، ومنهم من اقترب بها نحو الواقعية، وآخرون سمحوا لخيالهم أن يُحلِّق بهم بعيداً؛ ليكتبوا لنا قصصاً خياليّة، أو خرافيّة، و...إلخ.
وليس بخافٍّ على أحدٍّ أن القرآن الكريم اهتم كثيراً بسرد القصص الواقعية الحقَّة، بل إنه تضمَّن سورة سميّت بـ(سورة القصص)، «فإن القرآن صادق في أحكامه وقصصه وفي كل ما ذكره تفصيلاً أو إجمالاً... قال تعالى: ? وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ? (فاطر:31)»[3] . ومن قصص القرآن في ذلك، قصة يوسف ، فقد سميّت سورة مكية تبلغ آياتها (112) آية، «باسم (يوسف) ، لاشتمالها على قصته واسمه المبارك. وحيث كانت سورة (هود) مشتملة على قصص الأنبياء، كانت هذه السورة مكملة لتلك القصص، وأتت بقصة طريفة في موضوعها، وهي تشمل المقصود العام من القرآن الحكيم من التوجيه نحو المبدأ والمعاد، وتطهير النفس من الرذائل، وذكر الأحكام والتشريعات»[4] . وفي إشارة للإمام الشيرازي حول آية: ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ? (يوسف:4)، يقول فيها: «وبالأخص قصة يوسف، فإنها قصة واقعية فيها أنواع من التذكرة والعظة، مشوقة حيث اشتملت على موضوع مثير ? بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ? أي بسبب إيحائنا هذا القرآن قصصنا عليك هذه القصص فلولا إيحاؤه لم تكن قصة»[5] .
أنواع الكتابة القصصية:
ومن أنواع الكتابات القصصية المتداولة الآن، ما يأتي:
1- القِصّة الرومانسيّة.
2- القِصّة الخرافيّة.
3- القِصّة الخيالية، ومنها: قصص الخيال العلمي.
4- القِصّة الرّمزيّة.
5- القِصّة البوليسيّة.
6- القِصّة الواقعيّة.
7- القِصّة البطوليّة.
بين القصص الواقعية والقصص المصطنعة:
عندما نتتبّع القِصّة في كتابات الإمام الشيرازي؛ فإننا لا نجد عناءً في تحديد الأسلوب الفني الذي ينطلق منه في كتابته للقِصّة، فهو يكتب نصاً أدبياً نثرياً بأسلوبٍ «حواري قصصي»، أو بأسلوبٍ «حكائي قصصي»؛ لحدثٍ قد وقع بالفعل، بعيداً عن عالم الخيال والهيام، وبعيداً عن المبالغة في تنميق العبارات والألفاظ، ونجد مصداق كلامنا هذا عند قراءتنا لمعظم قصصه التي يرويها. كما أنه يعمد أحياناً لكتابة «قصص حوارية» مصطنعة أو مبتكرة، في بعض كتاباته الموجّهة للناشئة بهدف: التوجيه الأخلاقي، والإرشاد الديني، ونشر الفكر الإسلامي. أما عن دافعيته لاتخاذ هذا الأسلوب؛ فنجده يقول في أحدها: «وقد رأيت من الواجب أن أقدم إلى المبتدئين من شبيبتنا طرفاً يسيراً من أصول الإسلام، بأبسط صورة»[6] .
ومن خلال ملاحقتي للنتاج الفكري والأدبي المطبوع للإمام الشيرازي، أكاد أجزم: أنه وإن كان يكتب بعض القصص الحوارية المصطنعّة؛ إلاَّ أنه يكتب في الأعم الأغلب القِصّة الواقعيّة؛ القريبة من: «قصص الأمثال»، أو «قصص الأخبار»، في الأدب العربي القديم؛ فنقرأ له -مثلاً- في كتابه: «كيف ولماذا أسلموا؟»، العبارة الآتية: «لقد ذكرت في هذا الكتاب إسلام عشرة من المسيحيين في سبع قصص، وقد ذكرت القصص على علاتها بدون رتوش كما حدثت... وهذه القصص لو أخذت حجمها -في محاوراتي معهم- لكانت خمسة أضعاف هذا أو أكثر، لكني نسيت قسماً، وعصرت قسماً، وتركت قسماً، لتلائم مكانة الكتاب»[7] . وفي مقدمته للكتاب يقول مُصرِّحاً: «هذا الكتاب... مجموعة من محاورات دارت بيني وبين جماعة من المسيحيين»[8] . فهو يؤكد على كونها حوارات، لكنه صاغها بأسلوبٍّ حواريٍّ قصصيٍّ.
وقد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن الإمام الشيرازي تأثر كثيراً بأسلوب القرآن الكريم؛ لذا عمد لكتابة القِصّة الواقعيّة التي تختزل الأهداف والقيَّم التي يؤمن بها، ويسعى من أجل تحقيقها وتجسيدها في الأمة، ولم يقترب يوماً من كتابة القِصّة كفنٍّ أدبي خالص.
وثمة مسألة يستحسن أن نشير إليها فيما يرتبط بدرجة الاستجابة عند الإنسان في حال سماعه أو قراءته للقصص الواقعية، أو القصص المصطنعة، فـ«نجد أنّ المتلقّي ينفعل بالقصة الواقعية أكثر من انفعاله بالقصة المصطنعة، حيث أن انفعاله بالقصة الأخيرة يكون فنّياً بينما هو في القصة الواقعية: انفعال وجداني كما هو واضح، وذلك لسبب جلي، هو: أنّه يعرف سلفاً في القصة المصطنعة أنّه أمام ظواهر مصطنعة لا واقعية لها، بينما يجد نفسه أمام القصة الواقعية حيال ظواهر فعلية كما هو بيّن»[9] .
ولحضور هذا المعنى بوضوح عند الإمام الشيرازي، نجده يؤكد على «أن قصة الإمام الحسين هي أهم قصة يتمكن المسلمون بسببها من تبليغ القرآن والإسلام، ونشر التقوى والفضيلة في ربوع الأرض عامة، وبين المسلمين خاصة، وذلك لأن قصة الإمام الحسين هي قصة حقيقية وواقعية، عقلانية بحتة، وفي نفس الوقت، عاطفيّة صرفة أيضاً، وليست هناك عند البشرية قصة مثلها، ولا قضية تضاهيها في الاستهواء والتأثير، والجذب والتسخير، واستقطاب الجماهير»[10] . «نعم قصة الحسين قصة خالدة، ترتبط بواقع الكون الرحيب، وتتصل بعمق الحياة المليئة بالمغريات، مما يمكن الاستفادة منها لإصلاح الدنيا في كل مجالاتها، وإسعاد الإنسان في جميع أبعاده، ونشر الدين بكل فضائله، وإحراز الآخرة بجميع خيراتها، فإن ما ظهر من قصة الإمام الحسين الخالدة، حقائق وواقعيات عميقة الغور، بعيدة المدى، لا ينالها الإنسان بفكره، ولا يدركها بعقله، إلا بعد تدبّرها وتحقيقها، ومطالعتها ومدارستها، وذلك لأنها قصة مستوحاة من الوحي، ومستقاة من السماء»[11] .
ومن يتتبع كتابات الإمام الشيرازي القصصية، يلحظ أنه ركّز على جمع وتصنيف بعض القصص الواقعية في موضوعات محددة، مثل: «من قصص العلماء»، و«من قصص المستبدين»، و«من كرامات الأولياء»، و.. وذلك من أجل: الوعظ والإرشاد، فكما نحن بحاجة لقصص العلماء الأخيار، للإقتداء بهم؛ فنحن أيضاً بحاجة لمعرفة قصص المستبدين، لئلا نتمثلهم؛ فيلحقنا باتباعهم الخزي والعار!
أما لماذا ركّز الإمام الشيرازي على ذكر كرامات الأولياء؟ ولماذا صنّف كتاباً خاصاً بكراماتهم؟
فيقول في مقدمته لكتاب «من كرامات الأولياء»: «فهذه بعض كرامات الأولياء من الأنبياء والأئمة الطاهرين والعلماء والصالحين، نسأل الله أن يوفقنا للاهتداء بهديهم»[12] ، ويقول في المجلد الأول من كتابه: «من فقه الزهراء »، ما نصه: «يستحب ذكر ما يشاهده الإنسان من كرامات المؤمنين بالله... وهكذا يستحب ذكر مطلق كرامات ومعاجز المعصومين لما فيه من الفائدة العظيمة والتي من أهمها جمع الناس حولهم، فإن القائد إذا التفّ الناس حوله تكون كلمته أكثر نفوذاً وقيادته أكثر استحكاماً، وبذلك يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم، بالإضافة إلى أن ذكر الكرامات والمعجز يوجب قلع الناس عن الماديات البحتة، فإن الماديين يتصوّرون أن المادة هي كل شيء، والمعاجز والكرامات لما كانت خلاف المعادلات المادية، فإنها تدل على أن «الماورائيات» وعالم الغيب أيضاً شيء له تأثيره الخارجي الكبير، ولذلك لا يرتطم الإنسان في أوحال المادة التي تؤدي بدنياه وآخرته»[13] .
ولبيان درجة اهتمام الإمام الشيرازي بكتابة القِصّة، سأكتفي بذكر حادثة واحدة جرت له: فقد نقل أحدهم ما مضمونه[14] ، أن الإمام الشيرازي خرج متخفياً عن الأنظار قبيل الفجر إلى خارج مدينة كربلاء، وفي الأثناء حمل معه قلماً وبعض الأوراق، وجلس في بستان معين؛ لأنه سمع عن محاولة لاغتياله من قبل الحكومة البعثية في العراق، وحين علم بزوال الخطر عاد ليُصلِّي المغرب في صحن الإمام الحسين ، والطريف في الأمر أنه كان يحمل بين يديه كتاباً حمل عنوان: «من قصص العلماء»، كتبه في تلك الأجواء، وقد طبع هذا الكتاب أكثر من 25 طبعة!!
مميزات قصصه:
وما يُميِّز قصصه المدونَّة:
1- أنها مكتوبة بلغة سهلة واضحة؛ بها قدر من التشويق والمتعة.
2- أنها تحمل فكرة أو أفكاراً مباشرة؛ تدفع القارئ نحو فعل شيء أو ترك آخر.
3- أنها تسهم في: توعية المتلقي، وتعليمه، ورفع مستواه الثقافي.
4- أنها واقعية في معظمها، وربما كتب المصطنع منها للناشئة.
5- أنه المصدر الأول في الكثير منها، خاصة تلك التي تتضمن تجاربه الشخصية، وكذا تجارب وقصص الكثير من الشخصيات الدينية والسياسية والاجتماعية و... التي يرويها بدون واسطة عنهم.
6- أنها مُسطَّرةٌ -في معظمها- بقلمه وبمفرداته الخاصة، حيث يتضح للقارئ لنتاجه أنه يسجل الكثير منها اعتماداً على ذاكرته في معظم الأحيان، حيث تقرأ له قبل سرده للكثير منها العبارات الآتية: «سمعت من أحد العلماء، نقل والدي رحمه الله، نقل لي أحد المراجع، قرأت في كتاب فلان، اطلعت على قصة في أحد الكتب مفادها، يحكى أنَّ».
مصادره في كتابة القِصّة:
يعتمد الإمام الشيرازي على جملة من المصادر التي يستقي منها قصصه وحكاياته، ومن مصادره في كتابة القِصّة، ما يأتي:
1- قراءاته الواسعة والعميقة في الكتب والمواد القرائية المختلفة، ويأتي على رأس القائمة: القرآن الكريم، وأحاديث الرسول ، وروايات أهل البيت .
2- ما سمعه من قصصٍ وأحداثٍ بلسانِ أساتذته خلال تحصيله الدراسي، وكذا ما سمعه عبر مجالس الإمام الحسين ، وقد أشار في بعض كتاباته إلى أنه كان يحضر العديد منها يومياً، خاصة عندما كان يعيش في كربلاء المقدسة؛ قبل هجرته الاضطرارية إلى الكويت، ومنها إلى إيران.
3- القصص والتجارب التي يستقيها خلال أحاديثه وحواراته مع العلماء، أو المثقفين، أو التجار، وغيرهم، وكذا اعتماده على سؤال زواره بمختلف شرائحهم ومستوياتهم، حول الأوضاع في بلدانهم، حتى أن بعضهم كان يقول -وربما مبالغاً!-: إن الإمام الشيرازي يعلم عن بعض التفاصيل الدقيقة في بلداننا أكثر مما نعلم!
أهدافه القصصية:
• التربية بالقدوة: فهو يهدف إلى التعليم عبر القدوة والمحاكاة. فـ«الحياة -كما يرى- عبر وقصص... قال تعالى: ? لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ? (يوسف:111). وقال أمير المؤمنين علي : «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار»... فيلزم على الإنسان أن يعتبر بذلك.. لأن الحياة كما بينه الإمام تمضي بسرعة، قال : «إن الفرص تمرّ مرّ السحاب»... وكل هذه العبر والقصص وجميع ما يعمله الإنسان ستنشر في يوم القيامة، ليراها بنفسه«[15] .
والقارئ لقصص الإمام الشيرازي يلحظ أنه يستخدم القِصّة كغرض من الأغراض التي تهدف: تقريب المعاني والمفاهيم لأذهان الناس للعظة والعبرة؛ فسرد القِصّة القصيرة، قد يختصر في الكثير من الأحيان العديد من الجمل والفقرات التي يحتاجها المتكلم عادةً لتوضيح أفكاره.
• التحقق والتجسيد: ويمكننا أن نُعبِّر عن ذلك بـ«الواقعية»، أي أن القصص التي يرويها لها علاقة بالواقع المعاش، أو بمتطلبات المرحلة بعبارة أخرى، فكثير من قصصه بعيدة عن المثاليات، فنجدها أفكار قابلة للتحقق والتطبيق؛ لأنها تدخل ضمن حيِّز الفعل البشري.
• الغائية: إذ أنها قصص تستهدف الدفع نحو فعل وترك آخر، فالإمام الشيرازي بوصفه أحد رجالات الإصلاح في العصر الحديث، عمِدَ لاستخدامها كوسيلة مؤثرة لتعميم الفكر الإصلاحي، فنلحظ أنه -على سيبل المثال- ومن خلال عرضه للقصص الهادفة عَمِل على تغيير الكثير من الأفكار الانهزامية في الأمة، فهو يكتب قصص الصمود، ليربي أبناء الأمة على الصمود، ويكتب قصص الإيثار ليربي أبناء الأمة على الإيثار، ويكتب قصص التقوى، ليربي أبناء الأمة على التقوى، ويكتب قصص الحوار، ليربي أبناء الأمة على الحوار، وهكذا... وكأني به يلحظ أثناء كتابته قول الحق -سبحانه وتعالى-: ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ? (يوسف:3). فهو تمشيَّاً مع مراد الآية الكريمة، يقِصُّ علينا أحسن القصص التي يرى أنها تحقق الأهداف الغائية للدين.
طرقه في تناول القِصّة:
نحى الإمام الشيرازي طريقتين في كتابته للقِصّة، على النحو الآتي:
• أولاً: تناول القِصّة كعمل كتابي أدبي مستقل بذاته، كما وجدنا ذلك في بعض مؤلفاته الآتية: «قصص وعبر»، و«من قصص التاريخ»، و«من قصص المستبدين»، و«كيف ولماذا أسلموا؟»، و«كيف عَرِفتَ.. الله؟»...إلخ. فمثلاً، نجد الإمام الشيرازي بعد مقدمته لكتاب: «كيف عَرِفتَ.. الله؟»، يضع العبارة الآتية، كـ(فلاش) خاطف يختزل هذه الفكرة، يقول «رحمه الله»: فإن «الأمثال، والقصص» تثير العواطف، وتجلب الخاطر، فتقع الحكمة، والعلم موقع التركز، كما تقع البذرة في التربة الصالحة فتنمو وتثمر الثمر الشهي[16] .
• ثانياً: تناول القِصّة كعمل كتابي غير مستقل بذاته، كما رأينا ذلك في معظم مؤلفاته؛ إذ نلاحظ أن القصص تتخلل الكثير من الأفكار التي يطرحها ويؤمن بضرورة تطبيقها. وخير شاهد على رؤيتنا هذه كتبه الثلاثة الرائعة التي كتبها من أجل بناء الأمة الإسلامية المقتدرة، عنيت بها: «الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام»، و«السبيل إلى إنهاض المسلمين»، و«ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين». ونجده يقول في الثالث منها ضمن مقدمته: «أما الباب الثاني فسيخصص للتحدث - وبإسهاب - عن الدكتاتورية وملامحها وعلائمها وسمات الدكتاتور وأسباب وصوله للحكم وبقائه فيه وعلاج ذلك وسنتطرق لذكر نماذج كثيرة وحوادث وقصص عديدة تاريخية ومعاصرة تشير إلى أسلوب الدكتاتور وطريقة تعامله مع الناس وكيفية تصرفه في شؤون الدولة والأمة والله سبحانه المسؤول أن ينفع بهذا الكتاب ويجعله -مع سابقيه «السبيل» و«الصياغة»- مقدمة لتغيير حال المسلمين»[17] .
موروث العرب البلاغي والفنّ القصصي:
يؤكد الدكتور محمود البستاني في كتابه: «قصص القرآن الكريم.. دلالياً وجمالياً»، على «أن الموروث البلاغي في اللغة العربية لم يألف البتة ظاهرة الفنّ القصصي، حيث... أن القصة بمعناها الفنّي لا وجود لها في العصور الموروثة، بل أخذ ظهورها مع القرن الماضي نتيجة للتيارات الوافدة من الغرب وبروز الترجمة العربية لها، حيث خبر الغرب هذا الجنس القصصي بدءاً من الأغارقة، ومروراً بالعصور الوسطى وانتهاءً بالعصر الحديث... وأما عربياً، فإنّ القرون الأولى من تاريخ الإسلام لم تألف بشرياً صياغة القصة الفنّية بقدر ما لاحظنا من ظهور بعض القصص المترجمة أو المصاغة على لسان الحيوانات بنحو ساذج لا يمت إلى القصة الفنّية بصلة إلاّ في بعض عناصرها»[18] .
ومن الجيد أن نشير هنا لرؤية جميلة أشار إليها الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي «رحمه الله»، في أحد كتبه إذ ألمع إلى أن القِصّة تأثرت «بالاتجاهات السياسية والذهنيّة -نتيجة لطغيان السياسة والعلوم الماديّة على الحياة الحديثة- فظهرت القصص التي تعالج الصراع الاجتماعي، والتحليل النفسي، حتى كاد الغلو في الاتجاه الاجتماعي، يحيل القصة على توجيه اجتماعي مباشر، وكاد الغلو في التحليل النفسي، سيحيل القصة إلى مشاهدة عمليّة ومحاضرة نفسيّة. ونحن لا نحاول منع القصّاصين من هذه الاتجاهات، ما داموا لا يتجاوزون العمل لتثقيف المجتمع، ولكنا نقول لهم: إنّ هذه الاتجاهات، تخرج القصة من حظيرة الفن، طالما لا يعني الفن سوى العمل الشعوري، دون العمل الذهني»[19] . ولا يخفى أن كلام السيد حسن الشيرازي في هذا المقطع يرتبط بكتابة القِصّة كعمل فنيٍّ خالص، لذا وجدناه يعيب التوجيه الاجتماعي المباشر أثناء كتابتها، بينما وجدنا الإمام الشيرازي لا يكتب القِصّة الفنية؛ لكنه قد يقترب منها: في الهدفية.
و«من الطبيعي القول ألاّ أحد يكتب لنفسه، أو يكتب للتسلية المجانية، أو دون أن تكون له غاية، إنسانية أو اجتماعية، ففي التسلية متعة، وفي الكلام على العاطفة الإنسانية معرفة، وهذان هما اقنوما الفن. إننا لا نعطي دروساً في القصة، وهذا ما يجب أن نحذره، ولا نصرخ بأشواقنا في أودية الجحيم، فنحن، وبتواضع حملة رسالة ما، وطريقة إيصال هذه الرسالة تمر بالمتعة أولاً وبالمعرفة ثانياً، أو بالاثنين معاً، في حالة تمازج واندغام عفويين وقصديين، لا يفرق بينهما، أو لا يلحظ القارئ، الفارق بينهما، وإلا أخفق العمل الأدبي أو الفني، وكي نؤدي هذه الرسالة المفترضة، يحسن بنا أن نلمّ بها، أن نهضمها، أن تصبح ذاتنا، ومنها تنسكب على الورقة أو قماشة اللوحة»[20] .
القِصّة تصنع المعاجز!
ثمة اتفاق بين عددٍ من القرَّاء على أنهم يقرؤون القصص للتسلية والمتعة، وهناك من يُصنِّف القِصّة على أساس أنها تدخل ضمن حيِّز ونطاق القراءات الترويحية، وقد نتفق قليلاً مع هذه الرؤية، وهنا أودُّ أن أتساءل:
• هل يهدف الإمام الشيرازي من خلال كتابته للقِصّة إيجاد نوع من التسلية والمتعة للقارئ؟
وللإجابة أقول: لا شك أنه يهدف إيجاد نوع من التسلية والمتعة للقارئ؛ إلاّ أنه يضع على رأس هذه الأولويات تحقيق نقلة نوعية في حياته؛ فهو يتغيا إحداث عملية التغيير في أبعادها الحضارية المختلفة، فالإمام الشيرازي إنما يكتب من أجل استنهاض الأمة ورقيِّها، لعلمه بأن الكاتب الإسلامي يقوم «بأداء دور كبير في المجتمع الإسلامي فهو أداة الوعي الديني والسياسي والثقافي في الأمة، وبه تناط مسؤولية تعبيد الطريق وإزالة العقبات والتراكمات التي تحول دون تقدّم الأمة»[21] .
إذنْ، فعندما يختار الإمام الشيرازي الأسلوب القصصي في الكثير من كتاباته؛ فإنما يختار هذا الأسلوب؛ لأنه يعلم أن للقِصّة تأثيرها الكبير في النفوس، إذ يرى أن «الثقافة تصنع المعاجز»[22] ، وإذا قلنا بأن القِصّة = ثقافة، فحق لنا القول بأن: القِصّة تصنع المعاجز!
وبتعبير القاص والروائي السوري حنا مينه: «يمكننا القول إن القصة القصيرة، كغيرها من الأجناس الأدبية والفنية، تغدو الأداة الأقوى في التغيير المنتظر، التغيير الذي لا بد منه»[23] .
لذا نظل بحاجة ماسّة لمن يتخصص في كتابة القِصّة القصيرة، وكذا كتابة الرواية، بأساليبهما وتقنياتهما السرديَّة البحتة، من أجل الإسهام في بلورة الرؤى والأفكار الناهضة التي تنقلنا من عالم الظلمات إلى عالم النور، فنحن نميل للرؤية القائلة بأنه «لا فرق بين أن تعرض القصة، فترة دارت في الكون، وحوادث تمّت على الأرض، وأشخاصاً عاشوا هذه الحياة، أو أن تتناول فترة ولدت في الخيال، وحوادث انبعثت من النفس، وأشخاصاً عاشوا الضمير.
فالمهم: أن يبدع القصَّاص في الحذف من هنا والإضافة إلى هناك، وتنظيم الحوادث والخواطر والأشخاص، بحيث تحمل اتجاه مؤلّفه، وتبقى في إطارها الطبيعي العفوي، ولا تشذ عن المستوى الفني»[24] .
نكتفي بهذا القدر في حديثنا عن القِصّة في كتابات الإمام الشيرازي، الذي سيغدو -كما أتصور- قصة عظمى، وملحمة كبرى تتناقلها الأجيال، وهي تسرد قصصها وحكاياتها حوله فيما عمل وقدَّم من جهدٍ وجهود في خدمة الإسلام والإنسان!
فسلام الله عليك يا أبا الرضا والمرتضى، لأنك لا تموت.. أبداً! فالناس موتى وأهل العلم أحياءُ!!
قصة بشير وأزهار
وبما أننا تحدثنا في السطور السالفة عن القِصّة في كتابات الإمام الشيرازي، فيلزم أن نشير باختصار أيضاً، إلى قصة بشير وأزهار، صاحبا هذه الموسوعة القيِّمة.
فالقارئ لهذه السطور، قد يفاجأ حينما يعلم بأنهما حديثي عهدٍ بالزواج! فهما منذ برهة قصيرة قد أسسا بيت الزوجية الزاهر ولم يكملا بعد عامهما الأول؛ ليعيشا تحت سقفٍ من المحبة والإيمان، وخلافاً للكثير من الزيجات التي تشغلها أمور المعيشة والمادة بغرض توفير الرفاه المادي للأبناء - وهذا أمرٌ لا جدال فيه - وجدناهما يضيفا قيمة معنوية هامة، إذ فكرا بتسطيرِ عمل أدبيٍّ يستثمرا وقتيهما في إعداده بما يعود عليهما، وعلى أولادهما المرتقبين، وكذا القارئ أينما كان بالفائدة والفلاح. لذا نحن نستبشر خيراً كثيراً بهذا العطاء.
فما أجملها من لحظاتٍ عندما يجلس الزوج مع زوجته، وهما يتدارسان ويقرآن ويتحاوران سويةً في أمور الثقافة والأدب والفكر، وفي حالة «بشير وأزهار»، وجدناهما لم يكتفيا بذلك بل أكملا عملهما بأمر آخر، متمم لما سبقه، وهو التأليف والتصنيف، الذي كان من ثمراته هذا النتاج القصصي، الذي جاء نتيجة كدحهما في لملمة مجموعة كبيرة من قصص الإمام الشيرازي المبثوثة في عددٍ كبير من كتاباته المتنوعة.
وأجد في هذا العمل فرصة طيبة للتأكيد على مسألة إشراك الزوجة -أو الزوج- في معترك العمل الثقافي، كما فعل «أخي» بشير هنا، إذ أشرك زوجته «أزهار»، في نتاجهما المشترك الأول، ولا شك أنهما سيتبعانه بثانٍ وثالث و... إن شاء الله، وحبذا لو وجدنا من يحتذي بهما في هذا المضمار.
وإذا كان القارئ العزيز يحتفي باسم الأستاذة «أزهار المرزوق» لأول مرة في هذا العمل الأدبي الهادف، فهو بلا شك قد تعرَّف على الأستاذ «بشير البحراني» في أعمالٍ عديدةٍ؛ كاتباً وباحثاً -وقاصاً بدرجةٍ ما-، فمن إصداراته: كتابا: «نفي التنافي في القرآن الكريم»[25] ، و«العودة إلى القرآن»، اللذان ألفهما بالاشتراك مع أخيه الأستاذ فاضل البحراني، كما أصدر بشكلٍ مستقل كتابه النافع والمفيد: «العنف والإرهاب والجهاد.. قراءة في المصطلحات والمفاهيم»، وجدير بالذكر أنني اشتركت معه في إصدار سلسلة كتب «أفكار هادفة»، وقد جمعتني وإياه الكلمة الطيبة في أكثر من عملٍ ونشاطٍ، منذ أن توطدت أواصر العلاقة الروحية والثقافية بيننا، عندما كان يدرس في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، وأنا حينذاك ملتحق في صفوف المعلمين للسنة الثانية، كان هذا الكلام عام (1417هـ)، ولا زلنا نتواصل في طريقنا الصعب المستصعب! ضمن «مؤسسة القرآن نور»، حيث يدير أخي «بشير» مجلة وسلسلة «القرآن نور» الصادرتين في بيروت، بكفاءة عالية.
وختاماً..
أبتهل إلى الله أن يوفق الزوجين السعيدين ليصدرا لنا المزيد من الأعمال الهادفة، وليجعلا من حياتهما هذه قصةً في: المحبة والإيثار والتضحية والعطاء، وجميع ما في القاموس من الكلمات الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
كما أبتهل إلى الله أن يحشر إمامنا الشيرازي العظيم مع من يُحب ويتولى، مع سيد الخلق المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
[1] الموسوعة العربية العالمية. مج 18، ط2، (الرياض: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، 1419هـ)، ص202.
[2] نفس المصدر، ص197.
[3] السيد محمد الشيرازي. من فقه الزهراء ، مج2، ط2، (بيروت: دار صادق، 1421هـ)، ص301.
[4] السيد محمد الشيرازي. تقريب القرآن إلى الأذهان، مج2، ط1، (بيروت: دار العلوم، 1424هـ)، ص660.
[5] نفس المصدر، ص662.
[6] السيد محمد الشيرازي. كيف عَرِفتَ.. الله؟ ط1، (بيروت: مؤسسة الوفاء، 1404هـ)، ص7.
في حال أردتم معرفة المزيد عن هذا الكتاب, نرجوا أن لا تترددوا في التواصل معنا عبر
صفحة التواصل. ويسعدنا الرد عليكم في أقرب وقت ممكن.